الْقِصَّةِ مِنْ وَحْيٌ الْخَيَال لَا تَحْكِي عَن وَاقِعٌ بِعَيْنِه،فَإِن تَشَابَهَت مَع فِكْرِك أَو احداثك فَقَد أَشَرْت إلي مَا فِي نَفْسِك دُونَ قَصْدِ مِنِّي .
بِقَلَم /رَمَضَان بَر
لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّابُّ الثلاثيني ينشغل بِالسِّيَاسَة أبدا،وَلَم يَنْتَمِي يَوْمًا إلَيَّ حِزْبٍ أَوْ طَائِفَةٌ. فقد كان يعيش الْحَيَاة بِبَساطَة،يَعْلَم دَوْرُه جَيِّدًا بَيْنَ عَمَلِهِ كمحاسب فِي مَكْتَب أَحَدٌ الْأَسَاتِذَة الْكِبَار، يتقاضي مِنْه مَرْتَبَه الَّذِي بالكاد يُعِينُه واسرته الصَّغِيرَة، فَهُو مُتَزَوِّجٌ مُنْذُ ثَلَاثٍ سَنَوَاتٍ وانجب طفلته الوَحِيدَة .
وقد كانت حَيَاتِه روتينية بَيْن الْمَكْتَب وَالْمَنْزِل وَقَلِيلٌ مِنْ الزيارات العائلية .
يَبْعُد الْمَكْتَب عَنْ مَنْزِلِهِ قَرَابَة الْعَشَرَة كِيلو مِتْراتٍ،وكان دَائِمًا يَسْتَقِلّ مِيكْرُوباص لِيَصِل إلَيّ الْمَكْتَبِ وكذلك عند العودة .
أَثْنَاء عَوَّدَتْهُ مِنْ الْمَكْتَبِ يوما ما،تَوَقَّف الميكروباص لِوُجُود مُظَاهَرَة تُغْلِق الطَّرِيقُ.
فبعد انتظار نَزَل ليترجل ويتفقد الْأَمْر،وَتأكد أَنَّهُ لا مجال لسير العربات .
فَسَار خَلْف الحَشَد مُحَاوِلا إسْرَاع الْخَطي ليتخطي الْمُظَاهَرَة وَيُكْمِل مَسِيرَتَه إلَيّ مَنْزِلَه،فغلبه الفضول فسَأَل أَحَدِ الحشودِ عَنْ أَسَاب الْمُظَاهَرَة تلك، فأَخْبَرَه أَنَّهُم يُطَالَبُون بِعَيْش .. حُرِّيَّة .. عَدَالَة اِجْتِمَاعِيَّةٌ .
لَمْ يَعلق حتي ولم يرد بكلمة، وَأَكْمَل السَّيْر حَتَّي وَصَل إلَيّ الصُّفُوفَ الْأُوَلي ،وبعدَ َبِضْع دَقَائِق استوقفت مَسِيرَة المظاهرات حَمْلُهُ مِنْ قُوَّاتُ الأَمْنِ لِحِفْظ النِّظَام وَتَسْيِير حَرَكَة السَّيْرِ،لَمْ يَتَرَاجَعْ الْمُتَظاهِرون؛مِمَّا اُضْطُرَّ قُوَّاتُ الأَمْنِ لتفريقهم بقنابل مَسيلِة لِلدُّمُوع،وَقَد ألقوا القبض عَلِيّ بَعْض المتظاهرين وَكان من بينهم هَذَا الشَّابُّ،وتوجهوا بِهِمْ جَمِيعًا إلَيّ مَبْنِي التَّحْقِيقَات .
وسَأَل وكيل النيابة الشَّابّ ..
_ ما اسْمُك ؟
_ خَالِد السَّيِّد .
_ سِنَّك ؟
_ 33 .
_ وظيفتك؟
_ مُحَاسِب .
_سَبَبٌ وَجُودك بالمظاهرات ؟
_هذا خَطّ سِيَر عودتي إلَيّ مَنْزِلِي من عملي،ولقد َتَوَقَّف السَّيَّارَة التي أستقلها بسبب المظاهرات؛ فَنَزَلَت لِأَكْمَل طَرِيقِي سيرا .
_بِمَاذَا كُنْتُم تنادون بالمظاهرات؟
_عَيْش .. حُرِّيَّة .. عَدَالَة اِجْتِمَاعِيَّةٌ .
_إذن فقد كنت تهتف معهم ؟
_ لا..لم أهتف
_ألا تري أنه لا توجد عَدَالَة بِالْبَلَد؟
_لَا أَعْلَمُ شَيّ عَن المظاهرات وَلَا عَنْ طَلَبَاتِهِم .
_وَلَكِنَّك اقريت بِالْمُطَالَبَات؟
_فقط سَمِعْتُهَا ونَقَلَتْهَا فِي اجابتي
وهنا قَرَّر وَكِيلٌ النيابة حبس المتهم أَرْبَعة أَيَّام عَلِيّ ذِمَّةِ التَّحْقِيقِ.
خَرَج خَالِد ليستقبله الْحَارِس الْمُكَلَّف بحراسته
وأدخله بالْحَجْز
دَخَل الْحَجْز فِي حَالَةِ ذُهُول مِنْ الْأَمْرِ كُلِّهِ
وَلَكِنَّه أمَام أَمْرٍ وَاقِعٍ،لاَبُدّ وَإِن يتعايش مَعَه
قضِي الْأَرْبَع أَيَّام بَيْن المساجين والمجرمين. إَنَّهُ عَالِمٌ غَرِيبٌ عَلَيْه حقا،تعْرَف عَلِيّ الْجَمِيع
فأَحَدُهُم يُحَقِّق مَعَهُ فِي جَرِيمَةٍ قُتِل،وَالْآخَر مُتَّهَمٌ بِالسَّرِقَةِ،وَالثَّالِث بِالنَّصْب
وَآخَرُون بَيْن تَسْدِيد وَقَضَايَا شيكات .
عَالِمٌ مُخْتَلَفٌ وَأَيَّام غَرِيبَةٌ عاشها هنا فَقَد تَبَدَّل الْمَنْزِل بِسِجْن،وَالسَّرِير بِالْأَرْض،وَمن حقه فقط مَسَافَة عَشَر سَمّ لِلنَّوْم عَلِيّ جَنْبِه متقوقعا .
حتي دُخُولُ الْحَمَّامِ بِحِسَاب،وَالنَّوْم وَالْيَقِظَة وَالْأَكْل وكُلِّ شَئ لعين.
انْقَضَت الْأَرْبَع أَيَّام وَتَمّ عِرْضَه مَع الْبَاقِين ليجدد لَهُم خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمَا أخري.
ثم بَعْدَ تَحْقِيقِ بَسِيطٌ أَقْسَم لَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ لَا دَخْلَ لَهُ بِالسِّيَاسَة دُون جدوي
واستمر الأمر بَيْنَ الْحَبْسِ وَالْعَرْض لِلتَّحْقِيق مُحَاوِلا إثْبَاتُ أَنَّهُ لا دْخل لَه بالمظاهرات..حتي مرت ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَضَاهَا فِي عَذَابِ مُمِيت
ليعلن بعدها القاضي أخيرا إخْلاءُ سَبِيلِهِ .
عَادَ إلَيّ حَيَاتِه وَلَكِنَّه عَاد بِفِكْر مُخْتَلَفٌ،ونفسية محطمة،وَرُؤْيَة مختلفة لِلْوَاقِع.
وبصعوبة حَاوَل كُلٍّ مِنْ حَوْلَهُ مُسَاعَدَتَه لتخطي أزْمَتِه النَّفْسِيَّة وَإِعَادَتُه لِحَيَاتِه الطَّبِيعِيَّة،وَبِالْفِعْل رَجَعَ إِلَيَّ عَمَلِه ليرعي بَيْتِه وَزَوْجَتِه وَابْنَتُه .
وجاهد ليحَاوَلَ أَن ينسِي ماحدث،وعاد أخيرا إلي روتين حياته،وَمر عام وفي ليلة بعد منتصف الليل وَجَد الشُّرْطَة تقتحم منزله للاستدعاء،فذَهَب مَعَهُم ليجدهم يحققون مَعَهُ فِي أَشْيَاءَ لَمْ يَعْرِفْهَا،وَأَسْأَلُة كَثِيرَةٌ لا يعرف لها إجابة.
_مَا دَوْرَك فِ تلكِّ التظاهرات الأخيرة؟
_(مليش فِي المظاهرات،وَلَا فِي السِّيَاسَةِ نِهائِي يافندم والله )
_كَيْف هذا وَأَمَامِي ملف لك،وَقَدْ قَبَضَ عَلَيْك سَابِقا
_(اخدوني بالغلط واخلوا سَبِيلِي)
وبَعْدَ الكَثِيرٌ مِنْ الأسئلة..قرر وكيل النيابة .
حبسه أَرْبَع أَيَّام عَلِيّ ذِمَّةِ التَّحْقِيقِ
فَدَخَل مرة أخري في نَفْس الدَّوَّامَة
وثم خَرَجَ بعد شهر
استقبله والده واخبره ان زوجته ذهبت لأهلها وطلبت الطلاق .
ذهب إليها محاولا إقناعها بأنه ليس له ذنب ،فقالت له هذا ليس مهما،المهم أنك أصبحت لديك ملف في أمن الدولة،وأصبحت مطلوبا،واخبرت أنها قد اهينت وفقدت الامان بعد اقتحام منزلها بهذه الطريقة،وأصرت علي الطلاق،ومع اصرارها لم تكن حالته تسمح حتي بدخول في مفاوضات وحلول، فطلقها وأول مافعله عند الخروج من مكتب المأذون
أنه كتب لافتة خط عليها بخط عريض
(عايز أعيش في أمان)
توجه الي مجلس النواب ورفع اللافتة ولا إراديا راحت الدموع تنهمر من عينيه ويرتجف ويتذكر كل لحظة مرت به .
وبعد دقائق..نظر حوله ورأي خلفه علي مرمي البصر أناس كثيرة بدأوا يلتفون حوله،حاملين
لافتات مكتوب عليها
(عيش ..حرية ..عدالة اجتماعية)
وقد رأي الكثير أيضا من اللافتات .
(عايزين نعيش في سلام)
(نظرة الي المهمشين)
(نظرة الي الفقراء)
(نظرة الي منظومة التعليم)
(نظرة الي منظومة الصحة)
(نظرة بعين الرحمة الي المظلومين)
(حاربوا الفساد المنتشر من العهد الفائت في مفاصل الدولة)
كلها لافتات ومطالب البسطاء من الناس)
وبعد قليل ..
حضرت قوات الأمن؛لتقبض علي كثيرا من المتظاهرين،وعلي رأسهم الناشط السياسي صاحب الملف الموجود بالارشيف (خالد السيد)
وتم إعتقاله إلي أجل غير مسمي .